الاديب رحمن عباس
نكهة المكسيك
والشمس والانسانية
الاهرامات وحضارتي المايا والاستيك منحا الارض
التميز
بقلم الاديب
الفنان التشكيلي رحمن خضير عباس-كندا
حالما تطأ قدماك حدود المكسيك ، حتى
تشعر بنوع من الهدوء النفسي واﻹستكانة وكأنك تعود إلى أرض ألفتها وألفتك . هاهو مطار
كانكون الذي يزدحم مدرجه بعشرات الطائرات القادمة والمغادرةوكأنه خلية نحل . تمر
من خلال شرطة الحدود الجامدي الملامح .وحالما يُختم جواز سفرك حتى ترى نفسك في
فضاء إستوائي يعبق بالعشب والشجر ، ثمة رذاذ صيفي يلامس وجوهنا المتعبة ، تنتظرك
حافلة الفندق بسائقها الذي ﻻيتكلم اﻹنجليزية والدليل الذي يتكلم أكثر من لغة
.والذي يغرق القادمين بالترحيب وبفيض من المعلومات التي نحن بأمس الحاجة
إليها .كنا ثلاثة مجاميع او كبل . أنا وزوجتي ، وحالما خرجت الحافلة الصغيرة من
المطار حتى انفتح الحديث بيننا . وبعد ان تعارفنا اتضح بان المرأة اﻷولى مصرية من
اﻷقباط جاءت لتمضية شهر عسلها مع زوجها الكندي
. والمرأة
اﻷخرى لبنانية ولدت من عائلة هاجرت الى كندا وزوجها البرازيلي وأنا وزوجتي . بعد أن علمنا بان اﻷكثرية منّا
( الستة مسافرين)من الشرق اﻷوسط ضحكنا وإستأنسنا بكثرتنا حتى في تهجي الوهم
.كان الحديث عن كانكون والفنادق والامن وجمال الطبيعة واﻵثار . وصلنا الى
فندقنا اوﻻ بعد ساعة من الطريق بعد أن ودعنا اﻵخرين وتمنينا لبعضنا طيب اﻹقامة .
كان الفندق الذي اخترناه سلفا يستلقي
على البحر حيث الخليج الكاريبي بكل بهائه .المطعم المفتوح حتى العاشرة والنصف
ليلا حيث وصلنا . قيل لنا ثمة مطاعم اخرى بديلة تفتح بعد أغلاق المطعم الرئيسي .
وكان المطعم البديل كافيا لسد جوعنا من الأكلات الخفيفة . التي تفتح حتى الثانية
والنصف صباحا .
حين استيقظت صباحا كانت رائحة نخل
الجوز تعبق في الممرات وأمواج البحر تترامى برفق على الزوارق البخارية الرابضة على
مقربة من الشواطيء الرملية المزدانة بالمظلات واﻷرائك . بينما يبدو حوض الماء أزرق
تحف به التخوت وتتلألأ على صفحته الزرقاء خضرة نخلة الجوز المتأرجحة من نسيمات
عابرة .
لأشعة شمس المكسيك طعم خاص ولهوائه نكهة عذبة تمر عليك وانت
ترنو الى سماء زرقاء تمتد بإمتداد البحر .
كانت الحانة التي تبدأ الظهيرة وتنتهي
في المساء تمتد في أعماق الحوض المائي ، إرتديت قبعة الجلد التي إشتريتها من
المغرب ذات صيف
. جلست في مقعد كونكريتي يغرق في زرقة
الحوض المائي ، ﻻيبدو منه سوى مقعده العلوي الطافح بسيولة الماء الذي يغمر
الجسد بعذوبة . كان بمثابة حانة سابحة ، طلبت شرابا مكسيكيا . كان
بجواري شخص ﻻ أعرفه ولكننا إنغمرنا دون أن نعي في توهج اللحظة . كان مكسيكيا كبير السن حكيما يحب الجعه والنساء والبحر .
تحدثنا عن المكسيك ومستوى المعيشة والحالة الاقتصادية والهجرة الى الشمال وعن جدار
ترامب وعن حضارة اﻷزتيك . تحدثنا ايضا عن الوجع العراقي النازف
مابعد الغزو وماقبله ، وعن اﻷدب في أمريكا اللاتينية أوعن أدبائها.
ولكنه فاجأني بقوله " ان أدباء أمريكا اللاتينية كلهم ، بما فيهم شيخهم
ماركيز قد تأثروا بالكاتب المبدع وليم فولكنر
.
استمتعنا وودعنا بعضنا بمحبة وكأننا
نعرف بعضنا من زمان .
كنت أتساءل ماهي المشتركات التي تشدك
برفيق الصدفة ؟ إعتقدت إنها المثل اﻹنسانية التي تعبر حدود اللغة والعرق واللون
والجغرافية . كان حديثه عن جدار ترامب يشوبه اﻷلم . قال منذ أن نشأت أمريكا
والمكسيك تزوّدها باليد العاملة الرخيصة . وحينما أصبحت أمريكا دولة غنية عظمى
تخلت بنذالة عن فقراء المكسيك .! وأضاف غاضبا : أنهم يقيمون جدارا بينهم
وبين عصب الحياة وجذورها
كانت شواطي المكسيك فسيحة تمتد بدون نهايات . والرمل ابيض ناصع
يستمد من الشمس لونها . والطحلب البحري يُغرق الرمل ويصطدم بالشواطىء وكأنه يلوّث
نصاعتها .
الشواطيء تمتد بلا نهايات، والمكسيكيون يلوذون بالبحر ، يحملون
ماتيسر لهم من متاع ويستمتعون بمرأى السحب العابرة على الخليج ، يسترخون على
الشواطيء البحرية وكأنهم يرتلون نشيد الحياة . تمشيت
كثيرا مابين الرمل والموج والطحلب البحري بخضرته الفاقعة . الشواطيء تضج
بالوجوه التي لوحتها الشمس ، السوَّاح وباعة حليب الجوز ومقدمي الفرجة
والتدليك الطبيعي . . الشمس تستحم في لجة الموج . إنه مساء آخر . فغدا ٍنذهب الى الى آثار الحضارة المكسيكية الموغلة في
القدم ، حضارة اﻷزتيك والمايا .
كان موعدنا صباحا خرجنا من المدينة في
حافلة عامرة بالسواح وكنا نسير باتجاه الحضارة وأهرامات الچيچن إيتز . في الطريق
كنّا تتوغل في غابات لانهائية متشابكة الأغصان والجذور. وكأن الطرق التي تسير فيها
الحافلات خيوط رفيعة تتخلل هذا البساط المهيمن من العشب والشجر وَالنَّخْل. نمر
على القرى المكسيكية التي تلوذ بالاشجار وتتخذ منها مواد تكوينها. المدن الصغيرة
أيضا تولد في قلب الغابات كان الدليل يتحدث بدون انقطاع. وكلما إقتربنا من
الاثار زادت كلماته تأثيرا على أجواء المستمعين. توقفت الحافلة في المواقف المخصصة
. قادنا الدليل من البوابة الرئيسية وتوغلنا في الممرات الحافلة بالآثار
الحجرية الشاخصة منذ الازل . أقول الازل رغم ان ان الاركولوجيين يضعون
تواريخ شبه تقريبية لهذا البناء الإنساني الذي تجاوز عصره. ونبت في أعماق الأدغال
ليؤسس حضارة مازالت الأسئلة العميقة ترفرف بين أركانها ، دون أجوبة شافية. حتى
يتداخل الغرائبي بالممكن والحقيقة بالخيال . هؤلاء الأقوام الذين انجزوا
معجزات رياضية واُخرى في علم الفلك وفي البناء الهندسي الذي يعتمد على هذه
المعطيات. ففي الهرم الرئيسي اربع جهات تمثّل الشمال والجنوب والشرق والغرب
وفي كل جانب ٩١ درجة لتشكل بمجموعها عدد أيام السنة .كان البناء شاخصا وهو
نفس النصب الذي يستقطب حشود المشاهدين لمعاينة الهبوط الأسطوري الأفعى على سلالم
الكاستيلو وذلك يوم الواحد والعشرين من آذار من كل عام. هذا ماذكره الدليل
لنا ونحن نفتح أفواهنا انبهارا بأساطير أشبه بالحقائق.
في المعبد حيث درجة السلم الواحدة
التي تكمل أيام العام ال٣٦٥ تتم عملية القتل او مايسمى تقديم القرابين الى الآلهة.
وذلك بالتضحية بالبشر في مهرجانات دموية يختلط فيها الألم والاستغاثات بالقسوة
والجهل والرعب. الاف الجماجم وجدت متكلسة لتحكي قصص الطفولة البشرية التي تحاول ان
تستمر على البقاء من خلال الأضحية. لذا فان بيع المجسمات لجماجم بشرية من الحجر او
الخشب او البلاستيك يملأ الأسواق، كشعار لهذه الحضارة. في ساحة الملعب كانت
رياضة الازتيك والمايا تشبه كرة القدم وعلى كابتن الفريق ان يتجاوز المشي من
الجدار الى الجدار في أيد مقطعة نازفة وأركب مكبلة. والفريقان يلعبان لعبة الموت
والبقاء للأقوى . انه العنف البشري المشحون بمعتقدات غريبة تستمد من الوثنية
فلسفة الفناء. لذا فقد كانت حساباتهم تضع تواريخ لفناء العنصر البشري. وبالمناسبة
فقد كانت حساباتهم دقيقة تنتهي برقم العشرين وتعتمد على حساب أصابع اليد .
البناءات تمتد في كل هذه الأحراش والغابات أهرام وبيوت حجرية ومشخصات
بشرية وافاعي وزواحف ومعابد تعتمد على البناء الهرمي. مما يثير ذلك السؤال
المحيّر. مالعلاقة بين أهرام المرحلة الفرعونية في مصر وبين هذه الآثار في
المكسيك في ظل إستحالة فكرة الاقتباس ؟
كانت هذه الاطلال الحجرية تمتد في عمق
غابات استوائية هائلة، حيث ان المستكشفين الأوائل لجئوا الى حرق الغابات كي
يتلمسوا الملامح الحقيقية لما يسمى ( چيجين إتز ). وكانت بهيئة غير التي
نراها في هذه اللحظة والدليل يحكي لنا عما تلقنه من معلومات ، يمتزج فيها ضروب من
المشاعر والقناعات لسواح يختلفون من حيث خلفياتهم المعرفية والعرقية والثقافية
ولكنهم يتفقون على فكرة الانبهار بهذا المنجز الإنساني الغائر في القـدم .
في جولتنا الحرة ( بدون الدليل)
تجولنا بين الباعة الذين يضعون بضاعاتهم تحت ظلال الأشجار الكثيفة . مكسيكيون
بسحنة أقرب الى السمرة البرونزية. وبملامح شعوب المايا والازتيك التي انقرضت
بفعل الحروب والجفاف كما يُصر الدليل .باعة السفونير يملؤون الأمكنة
بمقتنياتها الحقيقية والمزيفة وبأعمال الخشب للاقنعة. كان القناع هو سمة
المقاتل الازتيكي لذلك فقد كان القناع هو الشيء الجميل الذي تجلبه معك كهدية
يذّكرك بهذه الأرض المكسيكية الطافحة بالثمر والبشر والفقر والغنى وبالجمال والقبح. وبكل أنواع المتناقضات المثيرة.
عدنا الى الحافلة حيث نتوجه الى
الحفرة الشهيرة والتي تبعد مسيرة نصف ساعة بواسطة الحافلة. انها بئر ضخم يسمونه (
آيك كيل). وهو بئر أشبه بالحوض النقي المياه يمتد عميقا ،. ينزل اليه السابحون
بسلالم حجرية . أطفال وكبار في منتهى الإعمار.
يبدو
المنظر كأن الناس الذين يستحمون في تلك الحفرة العملاقة كأسماك زينة بكافة
الألوان. بينما تتدلى جذور الأشجار وكأنها أشعة غير مرئيّة تهبط بشكل حلزوني
كنّا نجلس على الجدار الحجري المحيط بهذا الفضاء الجميل. حفرة طبيعية. تتكون
من الماء والشجر أصبحت مركز استقطاب سياحي عالمي ،يؤمها الناس من كل الاصقاع
ويغادرونها وفي مفكرتهم أجمل الصور والرغبات في عودة أخرى.
في طريق العودة كنّا نمر بالمدن
المكسيكية التي تكون أبنيتها مخروطية وسقوفها تعتمد على سعف جوزة الهند ،
مما يجعل الأمكنة تنسجم مع البيئة كما يوفر لها عازلا حراريا جميلا يجعل البيوت
مقاومة للحرارة. كما ان استخدام مثل هذه المواد يجعل الملائمة مع البيئة والحفاظ
عليها ويضيف مسحة جمالية وخصوصية مكسيكية. وتعتبر المكسيك ثاني دولة في العالم في
النظام البيئي كما انها غنية بأنواع الزاحف التي تربو على سبعمائة نوعا. كما
تتوفر الكثير من الطيور والحيوانات التي تشكل ثروة حقيقية للبلد .
في مطاعم الطريق أكلنا طعاما ذَا نكهة
مكسيكية . وقدم لنا رقصة مكسيكية بواسطة مجموعة من النساء والرجال يحملون
صينية بكؤوسها على رؤوسهم ويقومون برقصات جميلة تعتمد على التوازن. وألوان
براقة من الملابس والازياء المحلية التي تعتمد على الزخارف والنقوش.
مدينة ( پلايا كارمن) التي تقع على
الكاريبي يزخر شارعها الرئيسي بمئات المتاجر والمطاعم والبارات وباعة الصناعة
التقليدية وهواة الفرجة والذين يعرفون انفسهم على طريقة محاربي الازتك ويصبغون
وجوههم وأجسادهم بالألوان ، التدليك الطبيعي او بواسطة احواض اسماك الزينة،
المروجون للساحة وباعة التاكيلا، اللاعبون على الحبال والذين ينزلقون بطريقة
لاتخلو من خطورة من عمود عملاق على البحر ، حيث تمثال كبير وشاهق لعروسة البحر
. المتاجر التي تبيع السفونير ،الذي يعتمد على مجسمات الجماجم والاثار
والزواحف والقبعات المكسيكية العريضة. تلك المتاجر تتعامل بالدولار الأمريكي
ولكنها شديدة الغلاء وكأنها تتعامل مع السائح كأمريكي يساهم في بناء الجدار
بين الفقر والغنى،بين عمق العالم القديم الممثل بالمكسيك والعالم الحديث التكوين
والممثل بالولايات المتحدة.
في كل مكان تجد صورة للفنانة فريدة
كالو بحواجبها المميزة. تلك الفنانة التشكيلية التي استطاعت ان تتخلص من ضعفها
لتسيطر على اكبر فناني المكسيك والعالم وهو ريفيرا خوسيه والذي روضته لتصبح زوجته
ولتغير نمط حياته وسلوكه. فريدة الفنانة التشكيلية المبدعة، أصبحت رمزا للمرأة المكسيكية
القوية ، لذا كانت صورها في كل مكان في الكاليراهات والمطاعم والبارات في الشوارع
والأسواق انها الفنانة ذات الحواجب المعقوفة كالخناجر.
لا أعتقد بان الجدار على الحدود
الامريكية المكسيكية سيكون حكيما. لكنه سيكون جدارا عنصريا فالمكسيك هي الحديقة
الخلفية للولايات المتحدة والتي تزود الأخيرة باليد العاملة الرخيصة لذا فان
الأموال التي تستثمر لبناء الجدار. ستكون أكثر نجاعة للحد من الهجرة لو استخدمت
لبناء البنية الاقتصادية المكسيكية وبناء المصانع ومراكز العمل. عنذاك سيجد
المكسيكيون أنْ لاحاجة للهجرة الى الشمال لان البقاء في المكسيك أفضل لهم.
سنغادر كانكون الان وفي مخيلتنا مئات
الذكريات الملونة والتي تحفزنا لعودة أخرى. من نافذة الطائرة كانت خارطة كانكون
تحتنا تتكون من خضرة ممتدة بلا نهاية تعانق زرقة البحر.
قلت لزوجتي
:
طيلة اقامتي في المكسيك لم أصادف اية
ذبابة. ضحكنا حينما أضفتُ
ربما أفكر أنْ نصدّر لها ذُبَابًا !!
جانب من حضارة المكسيك
اهرامات في المكسيك
ارث حضاري مع الطبيعة
0 comments:
Post a Comment