Thursday 30 March 2017

مجموعة رحمن عباس القصصية



الاديب الكندي العراقي رحمن خضير عباس


مجموعتا رحمن  عباس القصصية
أوراق من يوميات حوذي أكثر تأثيرا على المتلقى
 وشظايا أنثوية ضياع وكوميديا سوداء وحنين للوطن

انغماس في الواقعية من تجارب ذاتية وخيالية
تأثر الكاتب بالمكان المحيط به بشكل كبير
سافر حاملا العراق في كيانه وانفعالاته
لم يحاول إبراز ايديولجيته وتلك نقطة تحسب لصالحه
كتب فيصل العلي
عرف المهاجر العراقي في كندا رحمن خضير عباس كرسام كاريكاتير لديه العديد من الرسومات الكاريكاتيرية،ولسنوات طويلة لم يقدم نفسه على انه كاتب قصة،وكل من عرف بذلك أصابته الدهشة وأنا أولهم خاصة حين قام بإهدائي ثلاثة إصدارات له عبارة عن مجموعتين قصصيتين إضافة الى كتاب نقدي يحمل عنوان "هواجس المأوى" حيث يكتب بتحليل نقدي عن بعض الادباء العرب من العراق والمغرب.
وكانت المجموعة الاولى تحمل عنوان "أوراق من يوميات حوذي"وهو اسم لاحدى قصص المجموعة،ولا اخفي اني بمجرد قرأت عنوان المجموعة تساءلت هل تأثر بالأدب الروسي الكلاسيكي؟؟؟!!!.
ولكنني عندما قرأت المجموعة أدركت انني على خطأ فهو يكتب بأسلوب خاص به،ولم يتأثر بأي أدب لدولة ما او أديب معين.
قام باهداء المجموعة لروح امه الطاهرة التي عرفت فيما بعد انها توفيت دون ان يراها لطالما كان في المهجر ولا يستطيع العودة للعراق ليلتقي بأمه والعراق،وكأني أذكر اشتياق الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي عبر عن ذلك بقصيدته الرائعة "غريب على الخليج" التي كتبها على ضفاف الخليج العربي في الكويت،وقام بغنائها الفنان فؤاد سالم الذي عاش نفس تجربة السياب ورحمن عباس ومثلهم الكثير من العراقيين.
كانت بداية المجموعة بقصة تحمل عنوان "أسوار" حيث مكان استقراره المرحلي في المغرب عندما تم تعيينه مدرسا في احدى القرى النائية،وهنا يبدو أديبنا رحمن عباس ينتمي الى المدرسة الواقعية بكل تفاصيلها.
ومن يقرأ تلك القصة يستشف ان الاديب يجيد فن الوصف سواء الانفعالات النفسية او الطبيعة والمكان المحيط به كما يبدو ذلك في العديد من القصص اذ يقول:
كان الخريف يتسرب بهدوء في جسد المدينة.يشعرك بذلك الشحوب الذي يعتري اوراق الشجر.وما ان يهبط الغروب حتى تتغلغل برودة شفافة، فتنسحب الخطوات المتسكعة التي تذرع الطرقات وأظل اسيرا في غرفتي محاطا بالضجر متأرجحا ما بين شعاع الضوء الواهي الذي يرتمي شاحبا،وبين العتمة الداكنة التي تنزوي في أعماقي.
ولا يخفي اديبنا اثر فراق العراق على قلبه وكيانه،ويبدو انه مصر عن التعبير عن تلك الهالة المعنوية المؤثرة فرحا وحزنا،ويبدو ذلك من خلال ما احتوته القصة:
"العراقي" هذا هو اسمي.وأحيانا "السي العراقي".الجميع يعرفونني بهذا الاسم،ورغم صيغة الابهام والتنكير التي طمست معالم اسمي الشخصي،الا ان الاسم الجديد أثار في مزيجا من الاعتزاز والسرور الخفي،وكأنني احتضن هذا العراق من خلال تقمص اسمه،بل كأنه يتدفق في عروقي،وأنا أرتمي في حقول "سوس" النائية.
ثم أتبع قائلا:
أنا العراقي المحاط بعوالم شبه خرافية..
ولم تخل القصة  من حضور للمرأة اذ يقول:
وحينما التفت  وجدتها تتهادى في سيرها،وجلابيتها الزرقاء عاجزة عن تمويه أسرار جسدها الذي بدا كأنه يتمرد على أثوابه،بينما كان شعرها الاسود الطويل يتلبد،ويستلقي على منعطفات وجهها القمحي.
ولم ينس اديبنا ان تضم جمله الرشيقة بعض الامثال الشعبية التي يوجد مثلها بشكل شبه متطابق مع بعض التغييرات حينما قدم دعوة لفتاته لتشرب القهوة معه فقال احدهم بصوت عال:"بناتنا بحال خبز السوق..ما ياكله غير البراني".
ولكن الاديب وجد تيارا قويا من المحافظين،وما شخصية مدرس التربية الاسلامية التيجاني الا رمزا لهذا التيار الذي أثبت مع الوقت انه وان كان يضم بعض المثالب الا انه يحمل الكثير من المناقب الامر الذي لا يتوافق مع مزاجية وقناعات اديبنا الذي وجد نفسه يسمع جملة ختام القصة على لسان التيجاني اذ قال:"اذهب ايها البراني،بعيدا عن اسوار مدينتنا..لقد جلبت لنا الدمار،ولكننا أبقيناك حيا طليقا.
وينتقل كاتبنا مع المكان و هذه المرة في محل اقامته الاخير العاصمة الكندية أوتاوا ففي قصة تحمل اسم "اللوحة" على لسان النادلة وهي تقول:أول عاصفة خريفية تجتاح أوتاوا.
ويقول ايضا:خرج من المقهى وهو يتشمم رائحة الاشياء التي اختفت تحت ركام الثلج الخريفي الذي ولج المدينة مبكرا..موجة من الضجر تنتابه وهو يطوف في الشوارع المهجورة مبكرا..وحينما استغرقه الثلج بكثافة،تذكر أحلامه عن هجرة ستنقله الى الفردوس الارضي الذي سيحقق كل رغباته المستحيلة،عن نساء شقراوات يجعلن أجسادهن ملاذا لفحولته الشرقية،سيبحر في زرقة عيونهن الى الابد حاملا شراع الرغبة المحمومة الازلية والمتأصلة فيه..سيسفح حرمانه ودموعه التي اختزنها ايام الحصار،حيث بغداد الشقية تتضور جوعا،تلك التي تركها بين مخالب اليأس.
من الواضح ان تلك القصة كتبت ابان الحصار الدولي على العراق في التسعينات الامر الذي يعكس تفاعل كاتبنا ممزوج الاحاسيس بين كندا والعراق بتركيبة طبيعية مما يشير الى ان كاتبنا ما  زال مهووسا بأدق التفاصيل الحياتية في البلدين حيث المكان الذي تعايشت احاسيسه معه دون ان يذكر كل تلك التفاصيل كما يبدو في بقية قصصه.
ومن يعرف اديبنا لن يكون متفاجئا بحضور الرسم الكاريكاتيري في احدى قصصه كما كان الحال في قصة "المقامة الكاريكاتيرية" حيث يصف حاله مع الارق وخياله مع الاشكال الغريبة التي برزت كأشكال غريبة مستعرضا من خلاله ما يقوم به رسامي الكاريكاتير كرسم الاذان الكبيرة او انوف مختلفة الاحجام وشفاه تتمطط وافواه تضحك.
واستعرض لنا بعض رسوماته مثل انف الرئيس الفرنسي السابق "جاك شيراك" الذي بدا كأنه اطول من برج ايفيل مشيرا الى ان شموخ الانف ذو دلالة على الكبرياء والغرور مع ان شيراك اقل تواضعا من اي شرطي في عالمنا العربي مع انه من المفترض ان يكتب ان شيراك اكثر تواضعا من اي شرطي في عالمنا العربي كما رسم الرئيس الروسي "يلسن" كخنزير مراقبا ولي نعمته "كلينتون" لكنه طلب العذر  في ذكر تصوراته وليس رسوماته عن بقية زعماء العالم لان هذا سيجعله يندرج في قائمة الارهاب الدولي الذي يحب مكافحته على حد تعبيره.
مرة اخرى يعيش العراق وعالمه العربي والشرقي في مفرداته وانفاسه وهو يكتب تلك القصة.
مرة اخرى يعود بنا رغما عنه الى عالمه الذي ابدع فيه من خلال الرسم الكاريكاتيري الذي ما زال البعض يعتقد انه مجالا للتسلية والسخرية فقط.
وفي قصة "النهر" يعود ليؤكد لنا ما ذكرت في المقدمة انه مرتبط بالمكان بصورة مبالغ فيها لكنها دلالة على أصالة معدنه،وها هو يذكر اسم مدينته "سويج الدجة" التي لا يعرفها الكثير من اهل العراق في الداخل والمهجر التي اصبحت فيما بعد باسم "الغراف"وهي معروفة الان للكثير منهم،ويصف حال المدينة من حيث العمل والمتعة للكبار الصغار معا.
وهنا تسربت بعض الاشارات الخفيفة للايديولوجيات اذ يقول:
كنا نتحدث بحذر عن الاتجاهات الفكرية للمعلمينن،نحكي لبعضنا في الاستراحة ما بين الدروس:"يمكن استاذ أمجد شيوعي..شلون عرفت؟...لانه يذكر اسماء أجنبية...اما استاذ حسين فهو قومي...شلون عرفت؟..لانه يتكلم عن الوحدة العربية"وهكذا جعلنا من أنفسنا خبراء في السياسة...ولم نكتف بذلك بل تحزبنا وصرنا نرطن بكلمات جديدة:"عفلق،ماركس،الاستعمار،الرجعية...".
ثم يقول:كنا نتلقن ايات قرانية وقصائد  وكلمات جديدة بينما كانت الساحة المتطاولة للمدرسة فضاء هائلا لخطواتنا المشاكسة
ثم يعود ليشير الى التدمير البيئي الكبير الذي حل بالغراف وعن النهر الذي جف فيقول:لماذا نشف؟اين مياهه اللاهثة التي ترتطم على ضفتيه؟كنا نتذك الشموع التي تتراقص على مويجاته،شموع مضيئة تفترش لوحة خشبية معطرة بأوراق بالياس تحملها صبايا يتلون نذورهن وامنياتهن..وبرفق يصل الى حد الخشوع،تتناسب هذه الشموع لتؤنس المياه الجارية،وتصافح المويجات التي تتوهج في ليل مخضل بالندى والدعاء.
يقوم اديبنا بتوثيق جزء من سلوكيات مجتمعه الصغير،وهنا يختلط قالب الدين والعرف والخرافات والخيال لكنه لا يقر ولا يرفض ايا منها مما نتساءل عن موقفه الخجول من الدين.

وتأتي المجموعة القصصية الثانية التي تحمل عنوان "شظايا أنثوية" التي أهداها الى زوجته التي تجرعت معه كأس الغربة.
مرة اخرى لم يستطع رحمن ان يتناسى ولو لبرهة العراق فاما هو يعيش في العراق واما العراق يعيش فيه،وكلاهما تحبسه في وضع نفسي سيء.
ففي قصة "ساعة جدارية" وهي عبارة عن قطعة خشبية منحوتة على هيئة خارطة العراق ولكنها ساعة جدارية فاشتراها من محل يملكه عراقي وكان فرحا بها وكان يهتم بها وكأنها ابنته الى ان توقفت الا انه رفض التخلص منها لانه يختزل فيها العراق الذي تركه رغما عنه ولا يستطيع العودة اليه فكتب قائلا:
 "لتبقى هذه الساعة صامتة لكنها تملأ الجدران".
وفي قصة "اغنية تحت المطر" يعبر عن غربته وضياعه الذي يفضله على البقاء في جحيم وطنه،وكم كان  وضعه مضحكا وهو مدرس فيزياء وقد تم تعيينه كمدرس للغة العربية حيث وجد احراجا مع طلبته بالنحو والموقف اكثر احراجا مع الموجه الذي تفهم الوضع وساهم في تعيينه كمدرس للفيزياء الا ان المأساة لم تنته كون شقته مسكونة بالاسياد على حد تعبير زوجته السابقة فاضطر بالذهاب الى زيارة ضريح سيدي عبد الرحمن في الدار البيضاء،وهنا يشير المؤلف الى ثقافة الشرق الساحرة وعلاقة السحر بالانسان وبتفاصيل حياته وان هناك من يعتاش على التعامل مع مثل تلك الامور سواء في المغرب العربي او المشرق العربي ولكن تبقى عملية تفاعل الناس مع مثل تلك الامور نسبية.
وتعكس قصة "وجدة واحزانها الصغيرة" الى مدى تأثير نظام صدام حسين على بعض الدول العربية فها هو يفقد وظيفته مع بعض العراقيين بسبب تدخل وضغط النظام العراقي في ذلك الوقت على الحكومة المغربية بوسائل عدة.
وتأتي قصة "السفح" لتعكس وضع الانسان العراقي عندما يكون عسكريا في نظام استبدادي مع ذكر بعض التفاصيل التي لا تخلو من الكوميديا السوداء خاصة عندما قاموا بالتحقيق معه كونه اشترى كتاب "عشرة ايام هزت العالم" ليتدخل الضابط الذي كانوا يتضايقون من تصرفاته فيقول انه اشترى الكتاب لانه كان يظن انه يتكلم عن عاشوراء.
وفي قصة "شظايا أنثوية" تناول على عجالة كون الدول العربية ما ان يشعروا البائعين انك غريب حتى يقوموا بمضاعفة السعر الامر الذي لا تجده في الدول الاجنبية اضافة الى الدجل من قبل امرأة شوافة على حد تعبيره وهي امرأة ترتدي نقابا عكس حسن الوصف حين قال:"وحينما قفزت دهشتها من وراء نقابها الاسود،ملوثتان بشيء من الكحل الرديء".

وفي قصة "الرجل الالي" تعبر عن موقف فردي من شخص اجنبي رفض ان يقدم له المساعدة في توصيل بطاريته كي تعمل سيارته فكان حانقا الى ان تفهم الوضع بأنه مجرد اختلاف بالثقافات.

وفي الختام فان ادب المهجر لم يعد له خصائص مثلما كان عليه الوضع قبل الطفرة الكبيرة في عالم الاتصالات الا ان الاديب الكندي العراقي رحمن خضير عباس ما زال ينتمي الى تلك الحقبة كونه يحمل في حقيبته وطنه ويغني ويبكي متفاعلا مع غربه وقد استطاع ان يجذب الكثير من العيون والعقول الى ما كتبه من معاناة وفلسفة عبر قصص قصيرة،والجميل انه لم يتسرع ليكتب رواية وان كنت اتوقع ان يحدث ذلك قريبا الا انه يكتب بأسلوب سلس وبجمل رشيقة وتعابير أنيقة عن ماهية القضايا الإنسانية والقومية لا تخلو من حضور غير مصطنع للدين والعادات والتقاليد والجنس في صور مختلفة تجعلني اقول بكل ثقة ان الادب الذي يكتبه رحمن عباس يستحق القراءة وان اختلفت الاراء بعدها.

0 comments: